اضطرابات التعلم عند الأطفال: كيف نعرفها؟
اضطرابات التعلم عند الأطفال: كيف نعرفها؟ الاستماع، الملاحظة، المساعدة
كثيرًا ما نلاحظ أن طفلًا ذكيًا ومبدعًا يعشق طرح الأسئلة، ولكنه يتعثر في القراءة أو الحساب أو الكتابة، فيبدأ القلق: هل لدى طفلي اضطراب تعلم؟ الحقيقة أن اضطرابات التعلم ليست حكمًا على قدرات الطفل ولا على مستقبله، بل هي اختلافات عصبية تؤثر في كيفية استقبال المعلومات ومعالجتها وتخزينها. كلما اكتشفناها مبكرًا، وقدّمنا دعمًا مناسبًا، كان تقدّم الطفل أسرع وثقته بنفسه أقوى.
هذا المقال يوضح لك —كأب، أم، أو معلم— كيف تستمع، تلاحظ، ثم تساعد: خطوات صغيرة، واضحة، وفعالة، مع أمثلة واقعية من الصف والمنزل.
ما هي اضطرابات التعلم؟
اضطرابات
التعلم المحددة (Specific Learning Disorders) هي صعوبات مستمرة
تؤثر في مهارات أكاديمية أساسية مثل القراءة (عسر
القراءة/الديسلكسيا)، الكتابة (عسر
الكتابة)، والرياضيات (عسر الحساب/الديسكالكيوليا). قد تترافق مع اضطراب
فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD) أو اضطرابات
اللغة أو التناسق الحركي (الديسبراكسيا).\ مهم: اضطرابات التعلم لا تعني تدني الذكاء، ولا تنتج عن الكسل أو
ضعف التربية. كما أنها تختلف عن بطء التعلم العام، ومشاكل السمع أو البصر (التي
يجب استبعادها أثناء التقييم).
في السياق
العربي، قد تظهر صعوبات القراءة بشكل أوضح بسبب طبيعة العربية (تشابه بعض
الحروف، غياب الحركات في نصوص كثيرة، الصرف الجذري)، ما يستدعي استراتيجيات
تدريس تراعي وعي الأصوات والمقاطع والجذور.
لماذا تحدث؟ (عوامل وأسباب محتملة)
- عصبية-نمائية: اختلافات في طريقة عمل مناطق الدماغ المسؤولة
عن اللغة والذاكرة والانتباه والمعالجة المرئية-السمعية.
- وراثية/عائلية: قد نلاحظ وجود تاريخ عائلي لصعوبات مشابهة.
- بيئية وتطورية: الولادة المبكرة، بعض العوامل المحيطة في
السنوات الأولى، أو انقطاعات تعليمية طويلة.
- الازدواج اللغوي: ليس سببًا للاضطراب، لكنه قد يُخفي الصعوبة
أو يبرزها، ويتطلب تقييمًا حساسًا للغة المنزل والمدرسة.
علامات مبكرة حسب المرحلة العمرية
في مرحلة ما
قبل المدرسة (3–5 سنوات):
- تأخر ملحوظ في اكتساب الكلمات، صعوبة في تمييز
الأصوات والقوافي (مثل: بيت/ليت).
- صعوبة في اتباع تعليمات متعددة الخطوات.
- تلعثم الحركات الدقيقة: قصّ، تلوين، حمل القلم.
مثال 1: مريم (5 سنوات) تحفظ الأغاني بسرعة لكنها تخلط بين أصوات الحروف،
لا تميّز الفرق بين /ب/ و/م/ عند اللعب ببطاقات الأصوات. باستخدام ألعاب تصفيق
المقاطع الصوتية والغناء الموجه، بدأت تتحسن خلال أسابيع.
في الصفوف
الأولى من الابتدائي:
- بطء شديد في تمييز الحروف وربط الصوت
بالحرف، تجنّب القراءة الجهرية.
- أخطاء إملائية متكررة غير منتظمة (تبديل/حذف حروف).
- صعوبة في حفظ جداول الضرب وفهم القيمة
المكانية (الآحاد/العشرات).
- تشتّت الانتباه، نسيان الأدوات، صعوبة في
تنظيم الواجبات.
مثال 2: يونس (7 سنوات) يتهرّب من القراءة أمام زملائه، ويبدو قلقًا عند اقتراب
حصة العربية. لاحظت معلمته أن أخطاءه متسقة نمطيًا (استبدال حروف متشابهة
شكلًا)، فأحالت الحالة لتقييم تربوي نفسي بدل الاكتفاء بقول “مش مركز”.
المرحلة
المتوسطة وما بعدها:
- القراءة بطيئة مع فهم جيّد شفهيًا.
- صعوبة تدوين الملاحظات بسرعة، وضعف في تنظيم
الأفكار كتابةً.
- القلق المدرسي وتدنّي تقدير الذات بسبب تجارب
فشل متكررة.
مثال 3: سارة (12 سنة) تفهم الدروس حين تُشرح شفهيًا، لكنها تفشل في الاختبارات
الكتابية. عند منحها وقتًا إضافيًا ومهامًا مجزأة، ارتفعت علاماتها دون
تغيير مستوى صعوبة المحتوى.
كيف نكتشف اضطرابات التعلم؟ (استمع، لاحظ، قيّم)
1)الاستماع
للطفل: “أين تشعر أن الأمر يصبح صعبًا؟ ما الذي يساعدك؟”
- للأسرة: تاريخ
لغوي/تعليمي، ملاحظات حول الواجبات، القلق أو الإحباط.
- للمعلم: أنماط
الأخطاء، استجابات الطفل للتعليمات، سلوك الهروب/التجنّب.
2) الملاحظة المنظمة
- في الصف: سرعة
القراءة، نوع الأخطاء، زمن البدء، التشتّت، طلب المساعدة.
- في المنزل: كم
يحتاج لإنهاء الواجب؟ هل تظهر تعب/دموع/غضب عند القراءة؟
- أدوات بسيطة: قوائم
فحص للوعي الصوتي، جدول لأنماط الأخطاء الإملائية (حذف/إبدال/عكس)، مقياس
انتباه يومي (1–5).
مثال صفّي: المعلم لاحظ أن كريم يقرأ الكلمات ذات الحركات بشكل
أفضل من النصوص الخالية من الحركات؛ تم تعديل المواد لتتدرج من نصوص مشكولة جزئيًا
إلى غير مشكولة، مع دعم بصري.
3) التقييم التربوي-النفسي
- استبعاد: مشاكل
سمع/بصر، أو عوامل صحية.
- اختبارات مهارية: القراءة الدقيقة، الطلاقة، الاستيعاب،
الإملاء، الحساب، الذاكرة العاملة، الانتباه.
- مسار مرتّب:
1.
فحص أولي في المدرسة (Screening).
2.
تدخلات صفية موجهة قصيرة المدى (6–12
أسبوعًا).
3.
إذا استمرت
الصعوبات، إحالة لتقييم شامل لدى اختصاصيي النطق/النفس/التربية الخاصة.
- النتيجة: توصيات
تعليمية دقيقة، وربما المشروع البيداغوجي الفردي (IEP)
أو ترتيبات صفية.
مثال عملي: بعد 10 أسابيع من دعم القراءة متعددة الحواس، لا
يزال أداء الطفل دون الصف بسنتين. أوصى التقييم بجلسات نطق/لغة مركزة على الوعي
الصوتي، والتدريب الإملائي القائم على القواعد، ودعم صفّي دائم (وقت
إضافي + نصوص مشكولة جزئيًا).
كيف نساعد الطفل؟ (استراتيجيات فعّالة)
أ) في القراءة (عسر القراءة
- تدريس منهجي صريح للأصوات
والحروف والمقاطع وقواعد الإملاء (تدرّج واضح).
- منهج متعدد الحواس: الرؤية + السمع + اللمس (تتبع الحروف
بالرمل/العجين، بطاقات، تلوين المقاطع).
- اللغة العربية:
- البدء بنصوص مشكولة ثم تقليل
الحركات تدريجيًا.
- إبراز الجذور والوزن لزيادة الوعي الصرفي (كتب/كاتب/مكتوب).
- تدريب على تقسيم الكلمات إلى
مقاطع، والتمييز بين الحروف المتشابهة شكلًا.
- دعم الوصول: القراءة
المسموعة، النصوص الرقمية، وقت إضافي في الاختبارات.
قصة نجاح
قصيرة: هبة (8 سنوات) انتقلت من قراءة 20 كلمة/دقيقة إلى 55 كلمة/دقيقة خلال فصل
دراسي واحد بعد تطبيق 15 دقيقة يوميًا من تدريب الأصوات والمقاطع باستخدام بطاقات
وألعاب مقفّاة.
ب) في الرياضيات (عسر الحساب
- تقوية المعنى قبل
الرموز: عدّ ملموس (مِكعّبات، عدّادات)، خط أعداد مرئي دائم.
- التركيز على الأنماط والعلاقات وليس
الحفظ فقط.
- تقسيم المسائل إلى خطوات مصورة + أمثلة محلولة.
- تدريب على اللغة الرياضية (أكبر/أصغر/يساوي، الفرق، المجموع).
- استخدام آليات تعويضية: جداول مرجعية، آلة حاسبة عند اللزوم (مع تعلم
الاستدلال).
ج) في الكتابة (عسر الكتابة
- قواعد إملاء صريحة وربط
الصوت بالحرف.
- تهيئة حركية: قبضة
قلم مريحة، أسطر عريضة، تمارين تناسق.
- استخدام مخططات ذهنية وقوالب لهيكلة الأفكار،
وتشجيع الطباعة عند الحاجة.
د) الانتباه والتنظيم((ADHD
- روتين ثابت،
تعليمات قصيرة خطوة–بخطوة، جداول مرئية للمهام.
- تقسيم الواجبات مع فترات استراحة قصيرة محددة
بساعة مؤقتة.
- مقعد يقلل المشتتات، وتعزيز إيجابي فوري عند
الإنجاز.
هـ) الدعم
العاطفي
- تطبيع التجربة: “عقلك يتعلم بطريقة مختلفة—وهذا طبيعي.”
- الاحتفاء بالتقدّم الصغير، اعتماد لغة النمو (ليس بعد… سأصل إليها
- حماية الطفل من الوصم والسخرية; بناء بيئة صفية آمنة.
دور الأسرة: ما الذي يمكن فعله يوميًا؟
- 10–15 دقيقة
يوميًا من قراءة مشتركة بصوت عالٍ، اختيارات تلائم
اهتمامات الطفل.
- ألعاب وعي صوتي ممتعة: إيجاد كلمات
تبدأ بنفس الصوت، تصفيق المقاطع، ألعاب قافية.
- الرياضيات بالحياة اليومية: عدّ الفواكه،
مقارنة أسعار، قراءة ساعة.
- دفتر متابعة بسيط
بين الأسرة والمعلم لتبادل الملاحظات أسبوعيًا.
- تهيئة ركن هادئ للمذاكرة، منظم وبعيد عن
الشاشات وقت الواجب.
- طلب دعم اختصاصيين عند استمرار الصعوبات رغم
الجهد المنظّم.
مثال أسري: أسرة آمنة جعلت “خميس اللعب اللغوي” عادة أسبوعية:
بزل كلمات، تركيب جُمل ممغنطة على الثلاجة، وقراءة قصة قصيرة… انعكس ذلك على طلاقة
القراءة خلال شهرين.
متى نلجأ للاختصاصيين؟
- صعوبات مستمرة تؤثر في التحصيل والرفاه
النفسي رغم دعم موجّه لثلاثة أشهر أو أكثر.
- تاريخ عائلي لصعوبات
مشابهة + علامات مبكرة واضحة.
- تفاقم القلق المدرسي أو تجنّب شديد للقراءة/الحساب.\
- الاختصاصيون
المحتملون: أخصائي النطق واللغة، أخصائي نفسي تربوي/عصبي،
معلم تربية خاصة، معالج وظيفي/حركي.
أخطاء شائعة ينبغي تجنّبها
- تسمية الطفل بـ “كسول/غبي” — هذا مؤذٍ وغير
صحيح.
- الاعتماد على الحفظ وحده بدل الفهم
والأنماط.
- مقارنة الطفل بإخوته أو زملائه.
- إطالة الواجب لساعات مرهقة — الأفضل تقسيمه
وتحديد زمن منطقي.
اضطرابات
التعلم ليست نهاية الطريق، بل دعوة لفهمٍ أعمق للطريقة التي يعمل بها عقل الطفل.
بالاستماع الدافئ، والملاحظة المنظمة، والتقييم الدقيق، ثم التدخلات التعليمية
والنفسية الملائمة، يمكننا تحويل التعثر إلى تقدّم، وبناء ثقة تدوم.
قاعدة ذهبية: التدخل المبكر + دعم ثابت + تعاون الأسرة والمدرسة
= أفضل النتائج.